Wednesday, May 16, 2007

حكايات من بيروت- الجزء الثاني

أدار ظهره لمكتبة يافت في الجامعة الأميركية في بيروت، جلس على المقعد الخشبي الأخضر. سمع جرس ساعة الكولدج هول. الساعة الآن السابعة صباحا. أشعل سيجارة، نسي أن يشتري بقية العدة. فنجان قهوة من تحضير إم ناجي. لا يعرف ماذا يفعل؟ هذه ورطة حقيقية يفكر أياد؟ ما من متعة تفوق شرب القهوة المرة مع سيجارة الصباح، ولا تكتمل هذه المتعة إلا برؤية البحر والجامعة من هذا المقعد على وجه الخصوص. شعر بمرارة. يخاف ترك المقعد للحظة خشية خسارته، فكيف بالصعود إلى شارع بلس وطلب فنجان قهوة والغرق في حديث مطول مع إم ناجي عن البلد والمنطقة والسياسة الخارجية الأميركية
.
- قهوة صديقي!
- تأتي المعجزة الإلهية فيشعر لوهلة أنه شخصية في فيلم سينمائي. بحر بيروت، وهذا المشهد الجميل، الدخان المتصاعد من سيجارته ورأسه يرسم غيوما بيضاء في سماء غابة الجامعة الخضراء، المأساة التي يعيشها بطل الفيلم، الحيرة، المرارة وفجأة هذا الصوت الذي يأتي من العدم. المشهد، الشخصية، المأساة والنهاية. قصة ممتازة وحبكة سلسة تنتهي بنهاية سعيدة.
- "بدك قهوة يا أياد، شو قصتك سرحان".
- "بعصتني"، كنت أظن أن الفيلم انتهى، يبدو أنه أطول مما ظننت، شكراً على القهوة بجميع الأحوال، "sit down ya man".
- متى تتوقف عن أحلامك بالنهايات السعيدة يا صاحبي؟ حين تقع في الغرام وتكسر رأسك على ما أظن. لن تنجو في كل مرة. لم تتعرف إلى فتاة إلا وتزوجت أو غادرت البلاد. أتعلم يا أياد، يجب أن تفتح مكتب زيجات أو سفريات، ستقبر الفقر.
- إيه وإنت ترشح عالنيابة.
- "أهلا وسهلا فيك، محل مروان ولا محلي يا عيني"، يردد عمر مزحة سمعها من أحد الأصدقاء. أحد المرشحين للمجلس النيابي زار رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي بقصد دعم ترشيحه في منطقة الشوف فتلقى جوابا ظريفا.
- "إه خليك بالمكتبة، أحسنلك". إتصلت بك صبية قالت أن إسمها دونا وقالت أنها ستمر اليوم برفقة أصدقاء لزيارة المكتبة وتحدثت بلغة عربية مكسرة. "بتحكي عربي متل كارلوس إده يا زلمي، من وين هي؟"
- دونا تعمل في منظمة العفو الدولية-لندن، ويبدو أنها في زيارة إلى لبنان. إلتقيت بها منذ أشهر في البارومتر وأعطيتها رقمي وعنوان العمل. كنت غارقا في معركة أكل وسياسة ولم يتسنى لي التعرف إليها.
- غريب أن تأتي والبلد محاصر والقنابل تتساقط من البحر والبر والجو. يبدو أن صديقتك الجديدة مجنونة، سنرى اليوم، ويقطع كلمات أياد صوت انفجار عنيف ويتصاعد الدخان من وراء مباني سكن الأساتذة في الجامعة ومدرسة الجالية الأميركية في بيروت.
- "طرقوا المنارة يا معلم"، في الصباح ضربوا جوني وعمشيت والعبدة شمالاً، أكيد ضربوا المنارة، مواقع الجيش والبحرية اللبنانية، مصادر عسكرية إسرائيلية قالت أنها استخدمت لمساعدة حزب الله على ضرب "ساعر"، البارجة الإسرائيلية مقابل بيروت!
- الجيش ساعد حزب الله في ضرب البارجة، "وهبل يهبلن!" إنو حزب الله ينسق مع الجيش في عملية من هذا النوع. مجموعتين أو ثلاثة بأكثر الأحوال تخطط وتنفذ عملية كهذه، "يعني 7 أو 8 من حزب الله يا زلمي. قوم عالشغل قوم!".

يرن هاتف عمر النقال كالعادة بعد كل ملحق إخباري. تعلمه زوجته بالمستجدات وتطمئنه عن عمر الصغير -الذي لم تتعب في إيجاد إسم له- وعن أكله وعما إذا كان قد أصيب بهلع نتيجة القصف وتسأله متى يتوقف كل هذا الجنون؟ تغني له كلما سمعت قصفا وتتجه نحو "الكوريدور" الضيق ظنا منها أنه آمن. تعرف أنه ليس بآمن فهي ترى مفعول القنابل الذكية على التلفاز ولكن إحساسها ببعض أمان مزيف يخفف من وطاة الرعب! يمكن لقنبلة تزن طنين أن تخترق أمتار من الباطون المسلح. تقتلع مبنى من عشرة طوابق وتتركه كومة من ركام وأجساد ممزقة.

لم تشعر بهذا الخوف أثناء حرب المخيمات. كانت الإشتباكات العنيفة تحصل على بعد أمتار من منزلها في برج البراجنة. فلسطينيين وشيوعيين وحركة أمل وأمل الإسلامية ومجموعات فلان وعلتان، تقاسموا بطولات مسلسل الرعب الذي أخرجت حلقاته في ما أصبح يعرف الآن بضاحية بيروت الجنوبية. لم يكن هناك سلطة مركزية قوية حينها تسير شؤون الضاحية وشجونها! لم يكن هناك مربع أمني. كانت تقضي وقتها بلعب الورق مع أولاد عمها في الملجأ المخصص لقصف الطيران. والدها كان عميداً في الجيش، كان متحسباً للمفاجآت اللبنانية على تنوعها. كان يعرف بالمشاكل قبل حدوثها. كان متابعا لأدق التفاصيل. علم ذات مرة أن أخاها شارك في مظاهرة لأحد الميلشيات فأعلمه أنه في المرة القادمة سيتلقى رصاصة من مسدسه إذا شارك في هذه المظاهرات. قال له أنها ستستقر في ركبته. يقول له:
- مظاهرة مع سلاح، يعني ميليشيا، "أصلا لشو يتظاهرو، هيذا عرض عسكري!"

تذكر زوجته سيارة الكاديلاك الفخمة. تذكر أنها كانت في الخامسة وأنها كانت تلعب بالمقود. السيارة مركونة في طلعة الكاراج، لا يتسع "الكاراج" لها. أخطأ مرتين، لم يتحسب لعرض سيارة الكاديلاك حين بنى الكاراج ولم يتحسب لعرض الكاراج حين اشترى السيارة. أمسكت بمبدل السرعة وشدته نزولا فكرجت السيارة وارتطمت بالحائط. شعرت بالخوف. لم تخف من الصدمة، خافت من والدها. حين اقترب من السيارة، اقفلت الباب. لم تفلح محاولات والدها وأمها المتكررة في إخراجها من السيارة. بقيت هناك أكثر من ساعة. جاء والدها حاملا حفنة من أزهار الكاردينيا. ضحكت وفتحت الباب، حملها واحتضنها وابتسم، لم يقل لها شيئا. كان يتقن تربية الأولاد ولكنه لم يتواجد في المنزل إلا قليلا!

لا يعرف عمر لماذا تكره زوجته الكاردينيا. أجبرته على إخراجها من المنزل. قالت أنها تجلب الحشرات. قالت أنها تأخذ مساحة كبيرة من الشرفة. قالت أن عمر الصغير سوف يبدأ بأكل الطعام قريبا وأن الشجرة تقف في مكان مقعده! لم يتخلى عن الشجرة. يحبها كثيراً، لم يوفر نوعا من الأسمدة إلا واستعمله فأصيبت الشجرة بنوع من الجنون. كانت تزهر في الشتاء. أنزل الشجرة ووضعها على مدخل المبنى. هكذا يراها كل يوم ويمنع عشاق سندويشات مطعم مروش من "هز بدنه". يوقفون سيارتهم في مدخل المبنى ويأكلون الدجاج بشراهة وينزعجون من بوق سيارته. يشعر برغبة في مصادرة "سندويتشاتهم ونتشها" وأحياناً يشعر برغبة في ضربهم. يزعجه التأخر في الوصول إلى المنزل. العمل وأغراض المنزل والمعارف على الطريق، كل ذلك ليس سوى وقت مقتطع من جولات "التبويس والتعبيط" الخاصة بإبنه الصغير. كل ذلك يعني حرمانه من ضحكة إضافية يطلقها عمر الصغير فتدخل مسام جسمه وتستقر في قلبه. كان يود أن يرزق ببنت قبل عمر الصغير. بعد ولادة عمر انتابه تأنيب ضمير شديد. يخشى أن يعرف ذات يوم!

- لا أعلم متى يتوقف القصف يا حبيبتي، بضعة أيام، سوف يدخل حزب الله المستوطنات الشمالية ويحاصر أرتال الجيش الإسرائيلي وينتهي كل شيء.
- "ألف مرة قلتلك ما تمزح معي وأنا معصبة".
- يا حبيبتي، هذه المنطقة آمنة، رأس بيروت، هذه منطقة لها حصانة دبلوماسية، الجامعة الأميركية مظلة للمنطقة، لا تخافي. لا يقصف أحد هذه المنطقة إلا الجنرال عون وينفجر بالضحك!
يشير إليه أياد بالتوجه إلى الخارج في كل مرة يجيب عل هاتفه النقال. يتكلم بصوت مرتفع خاصة عندما تدخل السياسة على الخط. يتمنى أياد لو يعلم ماذا يضحك عمر في هذا الجهاز اللعين؟. كيف يعطيه هذه الطاقة على الكلام والمشي؟!

يجلس عمر على حافة بركة المياه أمام المكتبة. هنا يحرق 60$ من السجائر شهريا ويضيف إليها 60$ من الكلمات المنقولة خليويا. إذا أضفنا سندويش البطاطا بسلطة المايونيز الذي بقي على طعمه الرائع رغم تغير ديكور اليونيفرسال عدة مرات، يصبح المجموع حوالي 150$ أي ربع ما يتقاضى من راتب. يفكر عمر، لولا الراتب الذي تتقاضاه زوجته لظل يتنقل بين هذه البركة والشرفة المطلة على البلازا حتى يربح الجائزة الكبرى في اللوتو. ينتبه أيضا أنه نسي أن يحتسب ثمن أوراق اللوتو وسهرات البارومتر وأبو إيلي والريغستو فضلا عن أجار الشقة وقناني البلاك ويسل ومجمع القهوة "التنك" الكبير. يشعر بصداع قوي. يكره الحساب ويشعر أنه لا ينتهي ويبقى معلقا في رأسه حتى آخر سيجارة قبل النوم. يود لو كان بإمكانه أن يصنع فيلماً روايةً. هذه الفكرة تلاحقه أينما كان. أياد يسخر منه كلما سمعه يهذي عن فيلم أو رواية. معين يتمنى أن يلعب دور البطولة. وديع يتغنج إذا طلب منه تأدية رقصة في الفيلم. مازن جاء مع "ثورة الأرز" وخرج مع "الوعد الصادق". جاء لبناني %100 وخرج كندي %100. يضحك، "لا شك ان سيلين حاقدة على حزب الله". يتمنى لو يعرف رأي سهام في أفكاره. لا يعرف لماذا خطرت على باله، لم يرها منذ سنوات طويلة ولا يعرف أين تكون. كيف يجدها؟ لا شك أن معين يعرف أخبارها. جنان، زوجته، ستقول له: "أكيد فيك تكتب رواية، وستخفي في عينيها يقينا بأنه سيبدأها ولن ينهيها". سيلين ستقول له "إنت مش بس شيوعي وضايع، إنت رواية"، هذا طبعا إذا رآها بعد اليوم. طوني يئس منه منذ زمن. قال له:
- إذا أردت أن تكتب رواية يا عمر، عليك أن تكتب لا أن تفكر. حاول أن تكتب وفكر لاحقا!
يفكر عمر، ربما عليه أن يستأجر كاميرا، يصور لأيام ومن ثم يفكر، لا بد أن ينطبق على الفيلم ما ينطبق على الرواية. لا، عليه أن يكتب رواية ثم يحولها إلى فيلم. عندها، ربما ينتهي الصداع. يجب أن يحول صداعه إلى رواية. عليه أن يكتب عن أسباب هذا الصداع. عليه أن يكتب عن الرواية التي سوف يكتبها إذا!
- بماذا يفكر نيتشه الصغير؟. يقول أياد وهو يشعل غليونه المعقوف على باب المكتبة. حزب الله قصف مدينة بالقرب من تل أبيب رداً على مجزرة وقعت في الجنوب. هناك أخبار أن المجزرة وقعت في قانا، كما في ال1996.
- قصفوا مقر الأمم المتحدة!
- كلا يا صديقي، قالوا للأمم المتحدة: لا تستقبلوا أحد وإلا قصفنا مراكزكم، فلم يستقبلوهم، هكذا قصفوا قافلة في مروحين. أما في قانا فقصفوا الناس في بيوتها.
- وحزب الله قصف تجمعا للذباب! هل من أخبار عما استهدف القصف؟
- هناك خبر واحد، الصاروخ إسمه "خيبر واحد"، ويبتسم أياد ويخرج من فهمه جبلا من دخان أبيض ورائحة قاتلة تنتشر بسرعة البرق في أرجاء الباحة.
- "أياد... ركز معي، أنا نيتشيه الزغير، صح"، أود أن أكتب رواية أو فيلم، هذه المرة أنا مصمم، ما رأيك؟
- إذا كنت مصمم عليك أن تختار، إما رواية أو فيلم. هل اخترت موضوعا؟
- "إنو حياتنا، البلد، السياسة، غرام وانتقام".
- الرواية ليست موضوع إنشاء يا عمر. هناك موضوع محدد تريد أن تبدأ به وتدور حوله حتى تتعب وتتعب من يقرأ وثم تنهيه وكذلك الفيلم ولكنه يأخذ ساعة أو ساعتين من وقتك بينما الرواية تقتل وقتا أكبر وتقتلك إذا كانت مملة. لا يمكنك أن تتكلم في الرواية كما تتكلم مع أصدقائك. معظم أصدقاءك لا يتحملون سماجتك وتقلبات مزاجك وعصبيتك المفرطة. لا أعلم كيف تتحملك جنان أصلا ولا كيف تزوجتك. إذا أردت كتابة رواية هناك الكثير من المحاذير. أنت في لبنان وهناك أمور لا يمكنك التحدث عنها بالسهولة التي تظن. ماذا لو اتهمت باستثارة الأحقاد الطائفية إذا تكلمت بالسياسة.
- استثارة الأحقاد الطائفية والإصطياد بالماء العكر وإشعال نيران الفتنة والسيادة والإستقلال والحرية والدمقرطة والفدرلة والقبرصة واللبننة والعرقنة والحمرنة. هذه كلها موجودة في الصحف والقنوات المحلية والفضائية. لا فرق. رواية أو فيلم لن تقدم ولن تأخر وبالطبع لن تؤثر. "عنجد، قررت إكتب رواية".
- هل تعلم كم من الوقت ستقضي في كتابة رواية؟ إضاعة للوقت يا عمر، ربما أخذك المشروع سنة أو أكثر.
- الوقت بلا طعم أو لون أو رائحة، أليس كذلك؟ ماذا أخسر إن أضعته، وفي الحرب هناك الكثير من الوقت وإذا استطعت أن تجد للوقت ميزة فحين تأتي الحرب تضيع.
- هناك ميزة لم تخطر ببالك، يضحك أياد، الوقت ثمين.
- يجوز ولكن في الحرب ليس ثمينا. الملحقات كفيلة بتقطيعه وزمن الفضائيات قادر على كل شيء، "المنار لوحدا بتطير العقل". الوقت ثمين وفي الحرب يسرقونه منك وإذا كان حظك سيئا يسرقون بقية عمرك!
- "عجبتني، شو شربان الصبح يا عكروت، فايق رايق؟" الحرب يا عزيزي سريعة، أيام وتنتهي، لا تراهن على الحرب.
- "بتروح بس بتجي غيرها، ولو نسيت وين عايشين".
- حسنا، إذا كنت مصراً إستشير طوني، ربما يفيدك ببعض المعلومات التي تسهل عليك الكتابة.
- طوني قال لي أنه يجب أن أكتب وألا أمضي وقتي بالتفكير.
- إنسى ما قاله طوني، هرطقة، عليك أن تخطط، كل شيء بحاجة لتخطيط، خطط وفكر ثم إبدأ بالكتابة.
- عدنا إلى نقطة الصفر. من أصدق الآن، أنت أو طوني؟

أطعم السمكات المتبقية في "الأكواريوم". مات أكثر من نصفها في الحرب. الحرب السادسة كما أسمتها الجزيرة، حرب تموز كما تعرف في الشارع، حرب الكبار على أرض الصغار. أسماء كثيرة وحروب صغيرة. وحدها الأسماك لا تحمل أسماء ولا تحتمل أصوات الصواريخ. تموت فجأة. تراها منقلبة على جنبها عائمة على وجه الماء. يجب إزالتها فور موتها وإلا أكلتها الأسماك الأخرى. سمكته المفضلة لم يبقى منها سوى رأسها. ماتت في أيام الحرب الأولى. لم يعلم إلا بعد يومين أو ثلاثة. كان منشغلا بالتطورات الميدانية وبأصوات الصواريخ.

.

No comments: