طفح الكيل وانتفض الشباب (جيل لم يشهد الهزيمة كواقعة وبالتالي لم يتمكن منه اليأس). هذا هو التوصيف الموضوعي لحركة وثورة الشباب في كل من تونس ومصر على اختلاف الواقع وأشكال انتهاك الحقوق وسلم أولوياتها(!) وأشكال ووسائل القمع والافقار (بكل أشكاله من حصار سبل العيش والتفكير والكلمة والتجمع...) وازدهار الفساد والبطالة.
وانطلاقا من هذا الواقع، فإن الشباب المتمكن من وسائل الإتصال والتواصل التف على حصار النظام البوليسي (ودفع كثر في السنوات الأربع أو الخمسة الماضية ثمن هذا الالتفاف، طليعة المدونون، والناشطون...) في مبادرات جريئة ورائدة أتمنى أن تجد طريقها إلى الأبحاث والتوثيق قريبا (وأن يشارك فيها أصحاب الخبرات من الشباب أنفسهم).
واستخدم الشباب المساحة الافتراضية ودفعوا بها إلى أقصى الحدود، وجعلوا منها المنبر والنشيد الحماسي والدعوة، ولكن الشباب المحاصر لم يخرج من فراغ. خرج من بيئة محاصرة تفتقر للقيادات شابة كانت أو غير شابة، نقابية كانت أو غير نقابية، حزبية أو غير حزبية، والحق يقال أن النظام العربي بصورة عامة والثقافة السائدة لم تتح يوما أو لم تشهد تكون حزب سياسي بكل ما للكلمة من معنى، حزب مؤسسة، بل كان الحزب مرادف للسلطة، والحزب المعارض متى أتيح وجوده (وإن بحدود اللعبة غير الديمقراطية) طامح للسلطة في أقصى الحدود، وبعيد كل البعد عن طرح البديل الحقيقي للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.إن مشروع الدولة بقي بحد ذاته مفهوم مغيب، فلا وجود للدولة بالمعنى الشامل، أي التمثيل الاحتضان وبلورة الهوية وحفظ الوطن والمصلحة الوطنية وما يتبع ذلك من نمو وتقدم وتواجد على الخريطة الإقليمية والدولية.
تكمن المشكلة الحقيقية إذن في ثقافة وتقليد وموروث لا نكفر إن قلنا أنه سائد في هذه البلاد من عهد الخلفاء الراشدين، ولا نغالي إن قلنا أن قبلية إبن خلدون (التي تعلم منها كثر الكثير ولم نتعلم منها شيئا!) ما زالت حية ترزق وتتوالد.
وفي واقعنا المأزوم، انطلق الشباب بمطلب التغيير. وشرع بوضع مطالبه فكان أن وضع جملة مطالبه دفعة واحدة (وهذا أتركه لمقال أخر ولست بصدد مناقشته الآن ولكن تجدر الإشارة إلى أن سقف المطالب يفضل أن يأخد شكلا تصاعديا تدريجيا وألا يطرح في بداية التحرك) في محاولة لترجمة الحلم إلى واقع فضلا عن مخاطبة وجدان الشارع بكافة أطيافه وفئاته.
وانطلاقة من طبيعة النظام البوليسي، فهو كان آخر من دخل منتدى النقاش السياسي حول ما يحصل، فالنظام البوليسي والعقل البوليسي لا يتميز بالقدرة العاليةعلى تحليل الاتجاهات الجماهيرية، فهو يثق بقدرته على عزل المجتمع عن النظام والدولة ككيان وعزل المجتمع عن بعضه وتفتيت خلاياه بحيث يصبح الجمهور مغيب أصلا وغير موجود في عقلية النظام، وهو بالتالي غير مجهز للتعاطي معه أو التفاوض، فإما أن يستمر أو أن يسقط.
وانطلاقا من الواقع عينه ومن تاريخ منطقتنا الذي قلما شهد نوافذ مشرقة (في ما عدى كثير من الأناشيد الثورية والمناشير على أهميتها ورمزيتها فهي تعكس صورة حلم وتحققه وإن على مستويات بدائية)، ترجح الكفة لاستمرار النظام على رغم عدم حتمية هذا النموذج أو تعميمه أو أزليته.
ولكن لا بد من النظر إلى رقعة الجغرافية السياسية الأوسع ولعبة المصالح الإقليمية ومصالح الدول العظمى وتأثيرها على مجريات الأحداث ومخرجاتها. إن إسقاط نظام في بلد من بلدان هذه المنطقة يشكل ضياع ورقة (لا تسقط في صندوق انتخاب بل تصرف في خزينة دولة ما، وفي إستراتيجيتها البعيدة المدى)، وعليه فإن معركة إسقاط النظام- تبقى أم المعارك الحقيقية عنفية كانت أو لا عنفية- هي معركة ضد نظام المصالح المحلي لأصحاب النفوذ والسلطة- ويصح استخدام تعبير ناظمها (المصالح)- وهي أيضا معركة- وفي المقام الأول- تعقد لعبة المصالح الإقليمية والدولية فتفرض نفسها عدوا طبيعيا لهه المصالح. وعلى اختلاف الاصطفاف والتحالفات والمصالح، ترتسم صورة الصراع على الشاشات وسوق البورصة والمزايدات.
هكذا يدخل اللاعبون الدوليون لدعم النظام (في تونس ومصر)، وإن بصورة احترام إرادة الشباب، وسارعوا إلى رسم لوحة الانتقال الدستوري حينا والسلمي حينا آخر، في محاولة لتجنيب الشباب مخاطر الوقوع في المجهول، وكأنهم كانوا يعيشون الرفاه والازدهار طيلة العقود التي كانوا فيها راعيي- وتجوز هنا كلمة رعاة- النظام. ومن رفاه الشباب إلى رفاه أردوغان الحلم العربي(!) -ووريث قمع من شكل آخر- يطل علينا الفارس التركي بدعم منقطع النظير للثورة، ومروج للنموذج التركي في مضاربة وتلاق مع طروحات سابقة حول مخارج الأزمة في مصر، والتي دارت النقاشات والتسريبات حولها في الأشهر العشرة الأخيرة، وكان أبرزها الميل الأميركي إلى تسلم مؤسسة الجيش زمام الأمور- إن عبر سليمان أو غيره، ومن الجدير ذكره هنا وجود الوفد العسكري المصري الكبير في الولايات المتحدة الأميركية قبيل انطلاق الانتفاضة، والاتصالات التي أجراها قائد الجيش بتونس بالأميركيين قبيل رحيل بن علي- في مصر لصعوبة نجاح نجل مبارك في متابعة المسيرة(!). ولا ننسى أيضا خطاب الثورة الإسلامية في عيدها والذي يصب على المدى القصير في لعبة كسب الأوراق، أو بالحد الأدنى إضعاف قيمتها الشرائية في الأسواق الدولية.
ويأتي التحرش الأكبر بانتفاضة، فيشارك النظام العربي على اختلاف صوره وتحالفاته- ولا يمكنني تشبيه هذه اللوحة السريالية إلا بالموزاييك اللبناني الذي لا يتفق إلا على الصيغة، النظام الطائفي، ولو مع صراع على الحصص، وهي الصيغة الوحيدة أو الأكثر فعالية للحفاظ على حالة عدم الاستقرار والسير بإستراتيجية على شفير الهاوية- فتتحد الأنظمة يدا بيد لمحاصرة ثورة الشباب بكل الوسائل المتاحة، وفي الحد الأدنى محاولة حصرها- من المستغرب عدم التئام الجامعة العربية للنظر في خطر الشباب على المصلحة العربية المشتركة(!)، ولكننا قرأنا طبعا دردشات لبرلمانيين عرب يشجبون فيه التعرض لبن علي بمقالات تخدش شعوره ويطالبون بوقفها، في مبادرة ترمز إلى أولويات الإصلاح القانوني والتشريعي في بلداننا العربية(!).
وحين ننطلق من الواقع، لا ننطلق من منطق المؤامرة، ولا نروج لخيال علمي، بمعنى أن المصالح موجودة وواضحة (الصورة على المدى القريب أو المنظور) في اتفاقيات أمنية وتوازنات ومحاور على مستوى العالم والمنطقة ولا داعي للخوض في حيثياته ولكن يمكننا ذكر السويس، والنفط، والسلام، والذرة والصراعات التاريخية، والطموحات والبكاء على أطلال السلطنة... . ما من خطاب يأتي من كل حدب وصوب ويوجه إلى الشباب في مصر أو تونس أو أية دولة عربية أو إسلامية، يحمل أهداف تراعي أهداف وطموحات أو مصلحة هذا الشباب في دولة عصرية تحترم الإنسان وحقوقه ورفاهه.
إن في تحرر أي شعب عربي أو إسلامي من عقلية نظام الشخص الواحد أو الزمرة أو الميليشيا الموازية أو الايدولوجيا العقيمة في زمن سقوط الأيديولوجيات، ونهوضه باتجاه الدولة العصرية يشكل خطرا مباشرا على القوى العظمى أساسا، والقوى الإقليمية الطامحة حينا والجامحة حينا آخر كما يشكل خطرا على إسرائيل، ويهدد بإعادة توجيه الاهتمام لاحقا إلى قضية محورية مهمشة ومهشمة، هي قضية الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات.
وأخيرا، إن ما يحضر للشباب في إطار حصار انتفاضاتهم، لا يعدو كونه فتاتا من إصلاح قوانين هنا أو تغيير أسماء هناك، أو انقلاب يستبدل آخر، وهو لا يرقى بأي حال من الأحوال إلى طموحات الشباب. إن الشباب في مصر وتونس يحمل يعي بشكل كامل حجم المعركة التي يخوض، ويعي أن أي تنازل في هذه المرحلة سوف يكون التنازل الأول في اتجاه العودة إلى نقطة الصفر بعد حين وهو يعي أن العسكر هو من الشعب وللشعب ولكنه يعي أيضا أن دور الجيش حماية الشعب وليس حكم الشعب.
تحية لكم يا أبطال تونس، ويا أبطال مصر، وتحية لأمهات الشهداء ولعائلاتهم ولأصدقائهم، على أمل أن لا يذهب دمهم هدرا في معارك جانبية يصبح معها تحقيق ما كانوا يحلمون به سرابا.
No comments:
Post a Comment