بعد كثير من التفكير والتردد، قررت أن أوجه لكم هذه رسالة! وأعرف مسبقا أن العديد منكم لن يقرأها إما لصعوبات متعلقة بالحصار المضروب على حرية الوصول إلى المعلومات وتكبيل الإنترنت أو لكثرة المقالات التي تنهمر عليكم من كل حدب وصوب. مقالات تمتلئ بالنصائح والانتقادات والتوجيهات المباشرة وغير المباشرة وهي في أغلبها تأتي من مراقبين ومحللين معزولين عن الحدث على رغم المتابعة المتواصلة! هذا المقال هو واحد من هذه المجموعة التي تتراكم يوما بعد يوم، ولكنني أدعي أنني سوف أحاول أن أضيف شيئا ما، وأتمنى أن يؤدي دورا ما في ملحمة بطولاتكم التي بدأت للتو! أوجه هذه الرسالة التحية لشباب مصر وشباب تونس، لتونس المحررة ومصر المحررة.
قريبا تتحرر تونس وقريبا تتحرر مصر بفضل شباب كسر حاجز في ظل نظام واحد يمتد على طول المنطقة وعرضها، نظام واحد ضرب أرقاما قياسية في قهر المظلومين، واحتقار البشر، وتهميش حقوقهم، وإنتاج الفساد على حساب رفاه الشعوب وازدهار اقتصادهم، وتعميم ثقافة الخنوع والخوف واليأس. هذا النظام، والذي ليس لا يرعى أو يراعي أية منظومة قيم ولا يحمل أي توجه إيديولوجي، لا يخاطب العالم أو حتى شعبه إلا من هذا البوق! أو بالأحرى، فإن هذه الأنظمة الاستبدادية تتاجر بالشعارات الفارغة والتي ليس من شأنها إنتاج نمو أو تطور على المستوى الوطني، سياسيا كان أو اقتصادي أو ثقافي أو اجتماعي. وتبقى السطوة عنصرا رئيسيا في استمرار هذا الواقع- النظام.
إن سطوة النظام ليست عنصرا قائما بذاته وليست نتاج سياسة قمعية أو تجويعة بل هي نقطة التقاء مجموعة مصالح، لطبقة أو مجموعات أو دول. وبناء على هذا التعريف، يصعب أو يستحيل كسر سطوة النظام بغية إسقاطه أو إعمال التغيير بمعزل عن فهم مكونات هذه السطوة في أي بلد من البلدان.
لقد رأينا تجربة الشباب التونسي، وأخذنا الذهول والفرحة مما رأينا، ذهول أخذنا والعالم على السواء وفرحة أخذتنا وتركت تخبطا في العالم، عالم القرار. تخبط العالم الغربي، واختلط الأمر على فرنسا وأميركا فرأت كلاهما والعديد من الدول الأوروبية خطرا مفاجئا على مصالحها، وانتهزت من خلاله الفرصة لإعادة ترويع شعوبها وشعوب المنطقة من وحش إسلامي قادم كموطئ قدم في الحدث تنفذ من خلاله إلى تطويق مسيرة الشباب والتغيير. وفي ظاهرة غير مسبوقة في العقود الأخيرة، ظهر علينا زعماء العالم والمنطقة بصورة هستيرية على شاشات الإعلام والمنابر الدولية في سوق مزايدات -دولي وإقليمي- حول الانتقال السلمي والدستوري والإصلاح من جهة أو التحرر من سطوة الغرب من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال، لم يخرج قادة فرنسا أو أميركا على الإعلام أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية- الغربية المنشأ والأسباب- على شعوبهم بقدر ما يفعلون اليوم ولم تطلق حناجر التحرر في المنطقة أثناء الاحتجاجات الصاخبة التي عمت شوارع طهران إبان الانتخابات الرئاسية الأخيرة. إن في ذلك لعجب!
ليس من عجب في هذا التدخل السافر والوقح في حياة الشعوب المقهورة وليس من جديد في ذلك. فالشعوب المقهورة، المسلوبة إرادتها، وخاصة تلك التي يتربع على عرشها طاغية، تطرح سلعة رخيصة ولكن مربحة في سوق الصراع على مقدرات العالم، وتقاسم الحصص على المستوى الإقليمي، ثم الوطني! الشعوب المقهورة إذا هي بذرة في تربة خصبة تنج حصاد دول القرار ومقدراتها في سياق عملية معقدة تشكل علة استمرار الأنظمة القمعية ومدخلا لفهم وسيلته الوحيدة، السطوة!
هكذا تظهر صورة السطوة بكليتها لا جزئيتها، فهي ليست طاغية أو جيشا، وليست ميليشيا منظمة تحركها أياد خفية أو حزب حاكم، بل هي نقطة تجمع وانطلاق، تجمع مصالح الغرب أو قوى إقليمية مع مصالح طبقة حاكمة- لا أفراد. هذه السطوة إذن لا يمكن كسرها بتطويق عنصر من عناصرها أو إدخال تعديل في شكلها أو أحد مكوناتها. هذه السطوة هي شبكة عنكبوتية، لا تلبث أن تقطع خيطا من خيوطها حتى تستبدله بعشرات! إن كسر سطوة الأنظمة- الوسيلة- لا يتم إلا بدق عنقها، نقطة تجمع المصالح وضمان الاستمرارية. إن كسر السطوة، يتم إذن بتفكيك عناصرها، بكسر حلقة تلو أخرى، وبوتيرة تصاعدية. إذ أن أي نظام مصالح، يتطلب بيروقراطية لا غنى عنها لإدارته وتنظيم شؤونه، وعليه فإن تفكيك هذا النظام يكون بتوجيه سلسلة ضربات متصاعدة تبدأ في ركن النظام لتطال أطرافه أو رأس هرمه.
إن تفكيك أي نظام مصالح كتلك التي نراها في منطقتنا لا يكون وليد لحظة أو هبة أو حماسة، بل ينطلق من وعي وفهم وتحليل مسبق، وتخطيط ودراية بحجم التضحيات المطلوبة وقدرة على استشراف ردود الفعل والقدرة على مواجهتها. إن تفكيك أي نظام مصالح، سوف يواجه بقوة تتناسب إجمالا أو تزيد عن حجم هذه المصالح وهو بالتالي ليس نزهة في أي حال من الأحوال، وليس عفويا أيضا، إلا أنه ليس مستحيلا على الإطلاق وفي تاريخ البشرية شواهد لا تحصى في هذا المجال.
ويبقى عامل الوقت عنصرا أساسيا في عملية التحرير! ولعل عامل الوقت، هو في حد ذاته عامل نسبي، متغير عبر الزمن والثقافات. فثقافة العرب وتاريخهم شاهد على سبيل المثال على قصر نفسهم ورؤيتهم، وعلى شدة حماستهم أيضا! وكما تتشكل سطوة الأنظمة وأنظمة المصالح من مكونات عدة، تتطلب الثورة- وهي مرحلة- وعملية إسقاط الأنظمة عناصر متعددة تشكل الحماسة عنصرا أساسيا منها فيما يشكل قصر النفس والرؤية مقتلها. هكذا نفهم نحن الشباب مأساة الآباء والأجداد، ونفهم إرث الهزيمة الذي أصبح جزءا من ثقافتنا!
إن المرحلة الأولى في إسقاط النظام تتطلب الحماسة، وقد رأينا صخبا يصم الآذان في شوارع تونس ومصر مؤخرا! إن أولى مراحل التغيير تحققت فجرى توجيه ضربة أولى زلزلت أحد أركان السطوة، بإسقاط أحد وسائلها، بكسر جدار الخوف. هذا تحقق ولكن الرد الأول من النظام- نظام المصالح- بدأ يتعاظم ومن الجدير بالذكر أنه يستخدم عناوين متعددة تتراوح بين الترهيب- شكل النظام القادم، الخسائر الاقتصادية، الفوضى، الفتنة، الأحصنة والجمال(!)- والترغيب- الانتقال السلمي، الإصلاح، التغيير، تحقيق المطالب المشروعة(!) فضلا عن أحد أكثر الوسائل التقليدية نجاحا: بث الفرقة.
أيها الشباب، إن الأنظمة الاستبدادية التي نحن بغنى عن وصف ممارستها، هي أشبه ما تكون بالاحتلال الأجنبي أو الاستعمار. فللاحتلال بداية وتمهيد، موطئ قدم، لا يكون إلا في الداخل، وهناك من يجمع المعلومات ويعد العدة...، ومن يكافئ بشتى الامتيازات، وأنظمة المصالح العصرية التي نناقشها لا تختلف في جوهرها أو شكلها أو أثرها عن الاحتلال. ولعل صورة الاحتلال توضح حجم التضحيات والقدرة على تحملها وضمان استمرارية المسيرة حتى التحرير. أيها الشباب، لقد سقط لكم شهداء، شهداء أحرار. أيها الشباب، إن العدالة تقتضي ألا تسقط قطرة دم واحدة في مسيرتكم نحو التحرر والتغيير ولكننا نعيش في عالم لا يشبه العدالة بشيء. أيها الشباب، ليس في هذا المقال ما يدعو إلى العنف وإن قرأتم في فيه هذا، أعيدوا القراءة رجاء.
أيها، أنتم اليوم في قلب المعركة، في الميدان(!) وأنتم من أطلقتم الرصاصة الأولى على هذا النظام، الذي قتلكم (!). عذرا وكي لا أفهم خطأ، لستم بمدانين، أنتم طلبة حق، والنظام باطل. ولكن حذار، الوقت ليس في صالحكم، لكنكم ما زلتم حتى اللحظة في موقع المبادرة وما زلتم تمتلكون العزم، فإن كنتم طامحون، ومستعدون لتحمل الخسائر، اصنعوا المفاجئة وأعيدوا توجيه الدفة ولكم مني تحية يا من أدهشتم العالم وأفرحتم قلوب شباب كل شعب مقهور.
No comments:
Post a Comment