Tuesday, August 07, 2007

حكايات من بيروت- الجزء الخامس

يثقله ليل العاصمة، يثقله صمتها الذي يلف شقته ويقطع عنها النور والهواء. لا مكان لضوضاء في هذه الناحية من رأس بيروت، لا شيء يعلو فوق طنين أفكاره في شارع الحمراء، هذا الشارع الذي فقد بريقه الليلي أثناء الحرب الأهلية ولم يستعده في أيام السلم. إنتقل عمر إلى هذه الشقة بسبب خوفه من رجال المخابرات. شعر بتهديد حقيقي. كادوا أن يدقوا مفصلا تاريخياً في حياته. أخلت الشلة شقة السوديكو قبل يومين من اعتقال سمير جعجع، قائد القوات اللبنانية. في نيسان 1994، دخل سمير جعجع السجن ولكن عمر ظل طليقا، وكذلك مازن ومعين ووديع وطوني "القوتجي الشاذ" الذي كان شبه مقيم مع الشلة. قال له مازن أن رائف حذره من البقاء في الشقة. أخبره أن العميد أبو رائف طلب من إبنه عدم زيارته في الشقة لأنها مشبوهة! أخبره أيضا أنه يحبني ولكنه قال أن "عشرتي" سيئة. قال له أن الشقة تأوي شاذين جنسيا ومدمني مخدرات وأن معالجة هذه الشواذات ضرورية لأمن الشباب والمجتمع. لم تكن حبكة أبو رائف بجديدة على عمر، فهي أحد أسهل وسائل الإبتزاز التي يمكن استخدامها. علم عمر أن والد صديقته لن يدعه وشأنه. علم أن الوقت حان لينفذ تهديده

جلس خلف مكتبه في قسم الميكروفيلم في مكتبة يافت. سمع طرقا على الباب، تبعه دخول رجلين بلباس عسكري. وقف أحدهم قرب الباب واقترب آخر نحو مكتبه. رفع قبضته الحديدية وخبط بها فوق المكتب. قفز المكتب الخشبي المعتق وسقط محدثا جلبة رهيبة.
- "كب الإبرة بتسمع رنتا" قول صنع لقسم الميكروفيلم في المكتبة. خير انشالله، هناك خطأ في العنوان بالتأكيد!
- "يا عمر بيك، بنت العميد مش لإلك، يعني رقبتك منفكا والذبان الأزرق ما بيعرف وينك إذا بعد منشوفك معا".
- "العنوان صحيح، عفوا! ومع ألف سلامة، وبلغ العميد تحياتي. اللي بيطلع بإيدو يعملو".
إقترب الحارس، الرجل الذي حافظ على صمته حتى سماعه كلمات عمر الأخيرة، بدا وكأنه يود تمزيقه بين أسنانه المبعثرة في فمه الضخم. أبلغه أنه سيراقبه لأسبوع واحد وأنه لا يود أن يراه مرة واحدة بعدها إلا إذا لم يأخذ كلامه على محمل الجد. خرج الرجلان وتركا عمر الهادىء المتمرد على حافة بركان. لم يشعر يوما بهذا الغضب. أمسك بخزانة الميكروفيلم الحديدية وشدها نحو الأرض، لم تهتز! شعر بألم في ظهره، شعر بصداع قسم رأسه إلى نصفين.

يجلس على الشرفة المطلة على فندق البلازا، الأضواء مطفئة، الظلام يلف الشارع. على بعد أمتار من هذه الشقة، من هذا الشارع الميت، يرتفع الريغوستو على درج عملاق في مبنى الحمرا سكوير، ويرتفع البارومتر على درج متواضع في البلو بلدينغ بينما يتلطى أبو إيلي في بناية اليعقوبيان. يبتسم عمر، يطوق هذا المثلث شقته بحيث لا يستطيع مغادرتها إلا ومر بإحدى زواياه. لا مفر عبر الحمرا، عبد العزيز، كاراكاس، لا مفر من حواجز المحبة الليلة التي تحتضنها بيروت الغربية فتحتضنك! بيروت الغربية، لطالما أخذته هذه التسمية، وكأنها شيفرة سرية يقرأها عقله وتسري في عروقه.

يشعر عمر بوحشة فضيعة، يشتاق للشلة التي مضى أشهر على آخر اجتماع لها. قرروا في تلك الليلة المشؤومة من شهر نيسان 1994 أن يتفرقوا لأشهر. قرروا أن بيتعدوا عن أعين المخابرات والليل. يتمنى لو كان بإمكانه أن يفتح دفتره المجعد، دفتره الذي يحتوي إلى جانب القهوة والشاي والنبيذ والرماد بعض سطور خطها في الليالي السوداء. يتمنى لو يظهر مازن أو معين أو وديع أو طوني من قلب الظلام. يتمنى أن يحصل أي شيء يمكنه كسر هذه الوحشة التي تخنق صدره. يود قراءة بعض مما كتب لوديع ويود سماع بعض تعليقات معين. يود قراءة يوميات مازن ومسودة رواية جديدة يكتبها طوني. سوف يكتفي بدردشة بسيطة مع أياد زميله الجديد في شقة الحمراء، زميله الذي لم يتعرف إليه بعد. عرف فقط أنه في أمستردام، لعله يد خن سيجارة من "الحشيشة البعلبكية" الآن. الحشيشة البعلبكية من أفخر أنواع الحشيش، وهي تباع بأعلى سعر في أمستردام وهي تضاهي بعشرات المرات جودة الحشيشة الأفغانية. وفي مقاهي هولنده يضيفون الحشيشة للحلوى فيصبح من الممكن لمن لا يدخن أصلا أن يتمتع بطعمها ورائحتها! حتى أن المقيمين في بلجيكا على سبيل المثال يتكبدون مشقة السفر برا، ويدخلون هولنده في نهاية الأسبوع ليوم أو اثنين من أجل تناول "الحلوى الهولندية".

الله وأكبر... أطرق مستمعا لآذان الفجر ثم أتى ضجيج من الداخل، أغلق باب الشرفة، سمع دقات قوية على الباب. فتح الباب ليجد شاب ضخم أسمر بذقن طويلة ورأس صغير ينزع نظارته عن عينيه ويدخل بلا استئذان.
- أياد الحج، أنا أسكن هنا، تصبح على خير!
لم تكن هذه اللحظة المنتظرة بطبيعة الحال وعمر الذي كادت تقتله وحشته أصبح بأمس الحاجة إليها الآن بعد هذا اللقاء الفاتر. لم يتوقع علاقة حميمة مع هذا الشاب الذي سوف يقيم معه الآن ويبدأ العمل معه قريبا في مكتبة الجامعة، لكنه لم يتوقع أيضا هذا التبجح. لعله تحت تأثير الحشيش. قال له رفاقه أن مفعول الحشيش يمكن أن يستمر لساعات. لعله تناول بعضا من الحلوى على الطائرة. ربما جاء ببعضها في هذا الكيس الأحمر الضخم الذي ألقاه قرب الباب. لا تستطيع الحصول على نصف ربع أوقية من حشيشة الكيف البعلبكية الفاخرة بأقل من $25 دولار في بيروت، هذا إذا توفرت، وهم يضعونها في الحلوى في أمستردام، هذه هي الإمبريالية القذرة! ولكن المفتشين من جمارك وأمن عام في مطار بيروت لن يعرفوا بقصة الحلوى الهولندية على الأرجح، يفكر عمر. لعله جلب بعضها، يا ليتني أملك الجرأة لبعثرة محتويات هذا الكيس اللعين!

الأجزاء السابقة.

1 comment:

Anonymous said...

My stragle is who we are is what we had experienced or what had we learned and made our self which protocol wins at the end ...reading this it makes it worst....
good job ...